شذرات من قراءة في ديوان: ” على ضفاف الحلم ” للشاعرة نبيلة حماني.بقلم: د. عبد الباسط اجليلي/ فاس

شذرات من قراءة في ديوان: ” على ضفاف الحلم ” للشاعرة نبيلة حماني.بقلم: د. عبد الباسط اجليلي/ فاس

شذرات مـن قــراءة فــي ديـــوان :
” على ضفــاف الحلم “
للشاعــرة نبيلة حمانـــي
بقلم: د. عبد الباسط اجليلي/ فاس.
أيها الحضور الكريم؛ فضليات وأفاضل..
نلتقي سويا لنحتفي بالشعر في مدينة شاعرة حالمة عالمة، كان من نسلها وجوه أنيقة تسر الناظرين، وقلوب رقيقة تعشقت الكلمة وطفقت تبحث عن ظلالها وترشف من صبيبها ما يحيي المشاعر الرميم.
أشرف بهذه الدعوة الكريمة، وإن كان من عادتي حين أدعى إلى مثل هذه المناسبات لتقديم قراءة في عمل أدبي ما؛ أن أتحفظ في قبول الدعوة حتى أستشعر أن هناك ما يصلني بهذا العمل وما يثيرني فيه كقارئ حتى يحوزني حيازة تملك ويضمني ضم محبة .فأقول في نفسي: إن تسربت إلى باطنك خيوط من نور فيما تقرأ فاعلم أن ما بين يديك يستحق القراءة.. فاغنم فرصتك ولتكن أول الفاتحين.
لكنني اليوم على غير عادتي، تركت عادتي وعذري في ذلك عذر محب إذ تسأله: كيف أحببت؟ فيجيبك: لا تسألني لا ماذا ولا متى ولا كيف؛ أنا أحببت وكفى.
عذري أولا، أني دعيت من حبيب لا ترد دعوته ومن شاعر علمنا كيف تكون القصيدة محرابا والحب صلاة يؤمها حفيد ابن عربي؛ الحبيب الشريف.. الماتع الظريف.. صانع البهجة في حله وترحاله وحاشد الجمع في حضوره وحضرته، سيدي عبد الكريم الوزاني الإبراهيمي القائل في فص من فصوصه العاشقة:
فحبيب إلى المحب رسول
ومحب إلى الحبيب فداء
فكأن الحبيب داء محب
وكأن الدواء حاء وباء
وعذري ثانيا؛ أني أقرأ لشاعرة أنيقة قاسمتنا رغيف مشاعرها، فكان الشعر عندها ماء وخمرة ونايا، وحكايات أندلسية تراقصت على ظلالها المرايا، وبوحا شفيفا ينسرب خصيبا إلى الروح فيهزها هزا أنيقا.
في بوحها مكاشفات ومكابدات تغوص إلى الباطن، وعلى ضفاف حلمها تدعونا إلى لقاء من دون ميعاد، نسجت همساته بلغة قلبية محبة حانية مشغوفة تصنع في القلوب صنع الغيث في الأرض الطيبة.
نبيلة.. سليلة النبل والنبالة، يسعدني أن أقرأك حرفا موجوعا بلذة الكتابة.. فلتهنئي بما حزته ولتسعدي بما أنت أهل له.
أعود لأقول: ” على ضفاف الحلم” عنوان اختارته الشاعرة لديوانها الثامن، وهو عنوان قصيدة من الديوان، وأنا أراه قصيدة مكتملة الأركان؛ استوى فيها التصريح والتلميح، وتساكنت فيها العبارة المكثفة والإشارة الراعشة.
الضفاف تداعيات مكانية، عند حدودها يعانق الماء اليابسة لتكتمل دورة الحياة وتتجدد.. الماء يخصب الأرض فتحيا بعد موتها والشعر يخصب المشاعر فتحيا بعد ذبولها.
والحلم؛ تداعيات زمانية لا منطقية ولا محدودة، يتداخل فيها الزمن بأبعاده واندياحاته، وفيه تتبرأ الشاعرة من الزمن إلى اللازمن، فيصير اللازمن هو كل الزمن عندها.
عالم الأحلام عند نبيلة حماني هو عالم الشفوف والصفاء، يتشكل من رغوة البياض المنثَّرة على أكمام ورود بيضاء تظللها سماء بيضاء آثرت الشاعرة أن تجعل منها خلفية لغلاف ديوانها، لتكون اللغة البصرية متممة للغة الكاليغرافية شارحة لها .. دالة عليها.
فالحلم عالم العذارة والبكارة والنقاء، وهو جنة لا يطؤها إلا المطهرون.. والأبيض في العرف السيميائي دال على النقاء والعذرية والطهر، وهنا أسمح لنفسي كقارئ يبحث عما يفك به أزرار النص وأستسمح نبيلة كشاعرة لا تمنحنا من فتن نبضها في هذا العنوان إلا بمقدار حتى تجعل رحلة البحث عن منابع الجمال في ديوانها رحلة محفوفة بالمكابدات، لكنها مكابدات ماتعة ممتعة. لذلك سأسمح لنفسي مرة أخرى أن أضيف كلمة: ” بوح ” ليصير العنوان: ” بوح على ضفاف الحلم ” علّني أجد المداخل التي ستعينني على الولوج إلى عالم شعري كان البوح فيه تداعيات نفسية لا محدودة ترخم فيها مشاعر؛ الحنين والشوق.. الفرح والحزن.. الشك واليقين.. الوجع والخلاص.. الخضوع والكبرياء…
الملاحظ أن جانبا كبيرا من شعرية القول في هذا الديوان تنهض على محورية السؤال وعلى واندياحاته النفسية والتعبيرية، حيث يتلون السؤال بأحوال الذات ويرقص على إيقاع وجعها. فإذا كانت الأجوبة تنسف الأفق الشعري، فإن الأسئلة تبنيه وتجعل النص صيرورة للبوح لا تتوقف حين يسوقنا السؤال بمخاتلاته المباغثة إلى عالم نبيلة حماني سوقا جميلا ويسلمنا إلى فخاخه ليذيقنا بعضا من فتن حدائقها الخلفية وظلال زواياها الأثيرة.
وأنا أتعقب هذا الجانب، وجدت أن خط الكتابة عند الشاعرة يتحرك في اتجاهات مختلفة، لكنها منسجمة متكاملة تعبر عن كينونة شعرية موجوعة بالسؤال؛ سؤال الحب_ سؤال الحنين_ سؤال الكبرياء_ سؤال الفقد_ سؤال المصير_ سؤال البشارة الموعودة_ وأسئلة وأخرى…
لذلك ولضيق الوقت، سأكتفي بالإشارة المقتضبة إلى سؤال الحب وسؤال الحنين وسؤال الفقد.
*سؤال الحب:
إذن، عندما تكتب نبيلة حماني قصيدتها، فهي في الواقع تكتب نفسها وتدون سيرة الحب الذي لا يكون بين اثنين : ( حتى يخاطب أحدهما الآخر قائلا يا أنا) 1.
وهي بذلك تستقطر أحوالها ومواجيدها من معين الصوفية، ما يجعل الحب اندغاما وتماهيا، وما يجعل المثنى بصيغة الإفراد.
تقول من قصيدة: ” غياب الشمس قبل المسا”:
يا كم سألت الشوق عن أسراره
والقلب عن نجواه لما أفلسا
عذرا زماني لم تكن من أحتمي
بظلاله حين الأسى عمري احتسى
وجه المرايا قد بكى من حرقة
لغياب نور الشمس ما قبل المسا
أنت الذي بدمي تماهى نوره
ونما بجفني شمس صبح نورسا
أنت الذي كنت الأنا أرعى سنا
عليائه في ليل عمر قد قسا
فانعم بمن كان الرجا واطلب هوى
في القلب شاد قصوره فيها رسا 2.
وهي بذلك تعطينا درسا في الحب على طريقة الشيرازي إذ يقول:
قال لي المحبوب لما زرته
من بالباب قلت بالباب أنا
قال لي أخطأت تعريف الهوى
حينما فرقت فيه بيننا
ومضى عام فلما جئته
أطرق الباب عليه موهنا
قال لي من أنت قلت انظر فما
ثم إلا أنت بالباب هنا
قال لي أحسنت تعريف الهوى
وعرفت الحب فادخل يا أنا
الحب عندها وثيقة وميثاق غليظ يربط بين قلبين سرت فيهما دماء العشق وآلفت بينهما، ليكون العشق إفراطا في المحبة وسخاء في المشاعر بما يجعل الحب فيه يلتف على المحب حتى يخالط جميع أجزائه مثلما تلتف نبتة اللبلاب على ما حولها. تقول:
وأتلو وثيقة عشق لدي
كورد صلاة بعيد لقاك
أمازلت تذكر كيف كتبنا
وثيقتنا من دمي من دماك
وصفصافة الحب كانت تهيم
فتنمو على جذعها مقلتاك
وكم على شط الأماني سرنا
تداعب أنسام ثغري شداك
رسمنا سويا خرائط عمر
بدأناه تغري خطاي خطاك
وتعزف لي لحن حب شجي
وتشدو لقلبي فيهوى غناك
فأنت حماي وأنت صباي
لقد حزته من نعيم صباك
وأنت ملاذي سآوي إليك
وفي حضن قلبك سأبقى ملاك 3.
*سؤال الحنين:
يقال: ما من وَجْدٍ إلا حيثما كان فُقِد، وما من صبابة تتقد إلا وصارت تلوعا تذكيه نيران الشوق والحنين.. فيه يصير حال العاشق مثل حال الناي الذي يشكو ألم الفراق والتنائي. إن صوته هذا _ يقول جلال الدين الرومي _ : ( نار لا هواء، فلا كان من لا تضطرم في قلبه مثل هذه النار)4.
هو الليل يغري الشجون بصدري
يعيد الحكايا سطوعا فتغري
فذا الوجد يدعو طيوف هواك
يماري دموعا على الخد تجري
حنين ونزف جراح توالى
وعسر زمان عدا هدَّ صبري
فيا كم تغاضى فؤادك عني
ليسخر من آه سقم وأسر
أفاض الأسى من شغاف الدوالي
كساها شحوب فناء وعسر
أنين الجراح صراخ مداه
ودمع القلوب هطول بقفر
هي الروح ثارت هديل حمام
غزتها رياح حنين وهجر
فأنت السنا غادر الروح كرها
رماها حطاما بنار وجمر5.
الحنين من أحوال المحبة التي تورث شوقا وغراما وكلفا وهياما وبكاء وهما؛ والشاعرة في كل هذا تنوس بين ألم وانكسار وبين اضطراب واضطرام، فرياح العشق تجري بما لا تشتهي سفن العشاق وطقس العشق يجعل نبيلة حماني تدوزن أوتار الشجن على وقع لهفة توطنت في أنفاسها الجريحة:
وتبقى على هدب عمري نايا
تقول هويت وأنت منايا
تطوف ببحري نوارس شوق
وتشدو طيور الهوى في سمايا
أسائل سري فيك وكيف
غدا همسك العذب في الأذن نايا
أنا الحب في امرأة من عبير
وعطر المحبة بعض شدايا
فكيف أيا كل عمري تبيع
بلحظة ضعف نعيم هوايا
وتوقد جمر الفراق الرهيب
فيجري على الخد دمع المنايا
أراني إذا ما نظرت لنفسي
خيالا يلوح لي في المرايا
وأبصرني قد غدوت حطاما
تراكم في أضلعي أو شظايا6.
أقف عند السؤال الثالث باختصار شديد حتى لا أطيل وهو؛ سؤال الفقد.
*سؤال الفقد:
من خلال جدلية الأنا والآخر ومن خلال ثنائية الحضور والغياب، تستشعر الذات الشاعرة كينونتها فحضور: ( الآخر في دنيا الذات قد يشكل نقطة الضوء التي تأنس بها وتسكن إليها.. فيها تخط سعادتها وبها ترسم سرورها، وغياب هذا الآخر قد يحيل بهجة الحياة إلى انكسارات ومآثم تشل الذات وتراكم الإحساس بمرارة الفقد ) 7.
في ديوانها ” على ضفاف البوح ” تحتفي نبيلة حماني بعذاباتها ولواعجها من خلال قصيدة رثائية في والدتها رحمة الله عليها _ وسأكتفي بهذا النموذج حتى لا أطيل_ قلت؛ قصيدة رثائية كلها تساؤلات وجودية فلسفية خالطتها عاطفة صادقة دفوق ولهفة جامحة رقراقة، تبكي بحرقة فراق من عز عليها فراقها.. حضنها الدافئ الذي كانت تجأر إليه إذ تعوزها سبل الدفء والحنو. فراقها مر وغيابها يجترح مرارة أنكى وأدهى وأمر.
ما لمسته أن ثمة شجنا مريرا ولوعة غامرة يلفان قصيدتها ” أحقا رحلت؟ “، فجاءت نبرة الحيرة والحزن بيٍّنة طيعة على لسانها تتأرجح بين زمنين؛ زمن الماضي كمعادل للشوق والحنين، وزمن الحاضر كمعادل للألم والأنين، وهي في كل ذلك حافظة للعهد باقية على حبها للغائبة الحاضرة:
بعيني ونبضي ضياء سموت
وفي زهر روضي رحيقا غدوت
وعهدك أحفظه في ودادي
وثيقة نور إذا أنت غبت
فإن قلت شمسا فحقا وصدقا
أضاءت فؤادي وفيه سكنت
وإن قلت نهرا فليس غريبا
فعذبَ زلالك دوما منحت
ملأت دناي ابتهاجا وبشرا
وماس البهاء بعيني نثرت
أحقا تركت صباحات روضي
وما عاد صوتك يشدو ببيتي
فمن يا حبيبة يهدل قربي
ويسأل يا بنت قلبي أنمت؟
ومن ذا يا دلالا بأرضي يمشي
يضمد جرحي بأعذب صوت
ومن يا هديل الحمام يضم
فؤادي ويأويه إن أنت غبت
بكيتك أماه يوم الفراق
ودمعي سيبقى إلى حين موتي 8.
أختم فأقول؛ تجتاحنا نبيلة حماني بآهاتها، وتذيقنا من عذاباتها ما يئن على جرح ربابات أنفاسها، حين ساقتنا إلى أتون وجعها سوقا أنيقا .. بكرم شاعري كبير وجدتُ فيه شخصيا جوابا على سؤال لطالما فرض نفسه بإلحاح شديد في غير ما مناسبة: لماذا يحتفظ الشعراء بهذا القدر الوفير من الجمال؟..لأنهم أمراء الشعر بتعبير ابن جني.
دمتِ الأميرة والإمارة، فلقد جاءت شاعريتك راعشة بالدماثات لتهتك الحجب بين القصيدة وقارئها.. فتمتد فيه ويجد امتداده فيها… لقد أوتيت سؤلك يا نبيلة؛ فاقطفي من سدرة المشتهى حتى المنتهى، وأطعمي حروف الشعر من نور الملائكة.
شكرا لكم.. ونلتقي على ضفاف حلم جديد.
هوامش:
1_ الأبعاد الصوفية في الإسلام؛ تأليف: آنا ماري شيمل_ ترجمة: محمد إسماعيل السيد ورضا حامد قطب، الطبعة الأولى؛ منشورات الجمل/ بغداد؛ 2006، ص: 151.
2_ على ضفاف البوح؛ ديوان شعر _ نبيلة حماني؛ مطبعة وراقة بلابل_ فاس، الطبعة الأولى 2024؛ ص: 62 وما بعدها.
3_ نفسه؛ ص: 13 وما بعدها.
4_ التجربة الإبداعية_ دراسة سيكولوجية الاتصال والإبداع؛ تأليف: إسماعيل الملحم_ منشورات اتحاد كتاب العرب_ دمشق؛ 2003؛ ص: 23.
5_ على ضفاف البوح؛ ص: 73 وما بعدها.
6_ نفسه؛ ص: 81 وما بعدها.
7_” ترانيم الذات وسيرة الوجع في مراثي ديوان المرايا لمعالي الدكتور مانع سعيد العتيبة “؛ د.عبد الباسط اجليلي ضمن كتاب؛ ” الدكتور مانع سعيد العتيبة.. أمير العشق والسلام ” ( كتاب جماعي)_ إشراف وتقديم: الدكتور عبد الله بنصر العلوي_ منشورات المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية/ مجموعة البحث في الإبداع والدراسات المغربية الإماراتية_ كلية الآداب والعلوم الإنسانية_ ظهر المهراز، فاس 2022؛ ص: 15.
8_ على ضفاف البوح؛ ص: 110 وما بعدها.

اترك تعليقاً