مشيخة الطريقة التجانية رائدة الدبلوماسية الروحية الموازية بالبلدان الإفريقية
رئيس تحرير موقع علوي بريس
محمد علوي مذغري
“التصوف : أَخْلاَقٌ كَرِيمَةٌ، ظَهَرَتْ فِي زَمَانٍ كَرِيمٍ، مِنْ رَجُلٍ كَرِيمٍ، مَعَ أَقْوَامٍ كِرَامٍ”
يعتبر القطب المكتوم سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه وأرضاه، الشيخ المؤسس للطريقة التجانية الصوفية التي أرسى قيمها النبيلة، ومقوماتها الروحية، من خلال حث أتباعه والمنتسبين إلى طريقته على المداومة المنضبطة على تلاوة أذكار وأوراد يومية، مستوحاة من الكتاب والسنة الأحمدية، تحيي القلوب وتنورها، وتقوي صلتهم العقائدية بخالقهم رب السماوات والأرض وما فيهن، وترسخ محبة رسولنا الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في وجدانهم وحركاتهم وسكناتهم “شيوخا ومريدين وأتباعا ومتعاطفين، نساء ورجالا”، والذين يقدر عددهم بحوالي 450 مليون منتسب لهاته الطريقة الصوفية المتميزة منتشرين عبر العالم.
وفد استقر هذا القطب الرباني المكتوم سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه وأرضاه سنة 1213 هـ بمدينة فاس، مدينة العلم والعرفان، مدينة العلماء والأولياء والأبدال، حيث استضافه وأكرم وفادته ملك المغرب آنذاك العارف بالله السلطان مولاي سليمان قدس الله روحه، وذلك بعد رحلته العلمية الطويلة طلبا لتحصيل الفقه والعلوم الشرعية على يد العديد من علماء عصره وزمانه، حيث أهداه السلطان مولاي سليمان أحد قصوره الكبيرة بمدينة فاس ويعرف ب “دار المرايا”، اتخذه صرحا علميا يعقد به مجالس الذكر والتبحر في العلم ونشر الدعوة والفضيلة، واستقبال ضيوفه الوافدين عليه طلبا للعلم والتبرك، قبل أن يقيم زاويته العامرة التي ووري جثمانه الثرى بها، والتي يحج إليها منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا، شيوخ ومقدمي ومريدي الطريقة التجانية “رجالا ونساء” من مختلف بقاع العالم على مدار السنة، وعلى الخصوص طيلة أيام شهر ربيع الأول من كل سنة هجرية، حيث يتم الإحتفال بداخلها بعيد المولد النبوي الشريف، وذلك من خلال المواظبة على تلاوة القرآن وذكر الأوراد وقراءة الأمداح النبوية، مع تقديم الطعام ليلة الإحتفال للوافدين، والفقراء والمساكين، والجيران المحاذين للزاوية التجانية بحي البليدة فاس.
وبالنظر إلى مشمول الرعاية السامية، وكريم العطف المولوي، الذين جسدهما ملوك الدولة العلوية لمشيخة الطريقة التجانية وقطبها المكتوم الشيخ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه وأرضاه، نستحضر بعض مضامين الرسالة الملكية السامية التي وجهها أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره إلى المشاركين في الملتقى الدولي الثالث للمنتسبين للطريقة التجانية، الذي احتضنتها مدينة فاس العاصمة العلمية للمملكة، أيام 14-15-16 ماي 2014 والتي جاء فيها ما يلي :
لقد اتخذ هذا الولي الصالح مدينة فاس، داراً له ومقرّاً لزاويته الأم ، ومحجا لمريديه بعد طواف علمي وصوفي في غيرها من البلدان. فكان اختياره لها راجعا إلى اعتبارات علمية وروحية واضحة لديه.
وعندما وفد إلى هذه الحاضرة، تلقاه سلفنا المنعم، السلطان المولى سليمان بالترحيب والتوقير، وأحاطه بكريم العناية والتبجيل، على المعهود في أسلافنا الميامين، من رعاية العلماء والصالحين.
ومنذ ذلك الحين، وملوك الدولة العلوية الشريفة، المتعاقبون على عرش المغرب، يرعون مشايخ الطريقة التجانية، ويصدرون ظهائر توقيرهم، ويمدونهم بأسباب القيام بنشر التربية الروحية، وترسيخ قيم الإسلام المثلى، ومكارم أخلاقه العليا، في أوساطهم الاجتماعية، وبخاصة في بلدان الساحل والعمق الإفريقي، حيث يتشبث هؤلاء الأتباع بتلك الروابط، مقرّين بإمارة المؤمنين التي يمثلها ملك المغرب، كما كانوا يرسخون، في نفس الوقت، صلات الأخوة والتضامن الإفريقي، بين المغرب وأشقائه.
ولا عجب في ذلك، فقد ظل المغرب، ولله الحمد، على مدى العصور حصنا حصينا للإسلام السنّي الوسطي، الملتزم بمذهب الإمام مالك، رضي الله عنه، إمام دار الهجرة، ومشرق الهداية المحمدية على الدوام.
وقد ظل هذا البلد الأمين، راعيا للطرق الصوفية السنية، البعيدة عن البدعة والشعوذة والغلو في الدين، والتاريخ يشهد بأن المغاربة، صوفية وعلماء وصلحاء، قد جمعوا بين الشريعة والطريقة والحقيقة، في توازن وانسجام وتكامل والتحام.
وقد كانت الطريقة التجانية من هذه الطرق الصوفية، التي قامت على أساس الالتزام باتباع الشريعة والسنة المحمدية، والتربية الروحية والتزكية النفسية، مما جعلها تحظى بالإقبال الواسع على موردها الشرعي الصافي، من العلماء وغيرهم، لتنتشر في القارة الإفريقية وفي العالم أجمع عبر ألوف الزوايا المعروفة بإشعاعها، فنشرت الإسلام في ربوع إفريقيا، وأنقذت الملايين من أبنائها من ظلمات الوثنية والجهالة، وفتحت قلوبهم لتلقي أنوار الهداية الربانية.
وكان أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره، قد أصدر في الـ 22 صفر 1430هـ الموافق 18 فبراير 2009، ظهيرا ملكيا شريفان عين بموجبه الشريف سيدي محمد الكبير بن سيدي أحمد التجاني شيخا للطريقة التجانية.
وبمسجد القرويين بفاس، ومباشرة بعد أدائه صلاة الجمعة ليوم الجمعة 27 فبراير 2009، سلم أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره، الظهير الملكي الشريف للسيد محمد الكبير بن سيدي أحمد التجانين، إيذانا من جلالته أعز الله أمره بتعيينه شيخا عاما للطريقة التجانية، وهي إلتفاتة مولوية كريمة تظهر المزيد من العناية الملكية السامية التي يوليها ملوك الدولة العلوية لمشيخة الطريقة التجانية بالمملكة المغربية.
ومنذ ذلك الحين والشيخ العام للطريقة التجانية الشريف الجليل سيدي محمد الكبير بن سيدي أحمد التجاني، يجسد الدبلوماسية الروحية الموازية في أبهى صورها الحضارية، ومرتكزاتها الإشعاعية، وأبعادها الإستراتيجية، بالبلدان الإفريقية على وجه الخصوص، وبعض الدول العربية والغربية بشكل عام، إذ ليس هناك مقدم للطريقة التجانية أو مريدها، من دول إفريقيا جنوب الصحراء وكذا دول الساحل الإفريقي، إلا وقام الشريف الجليل الشيخ سيدي محمد الكبير بن سيدي أحمد التجاني بزيارتهم وتفقد السير العادي لمختلف الزوايا التجانية، واحوال المنتسبين إليها، وكذا تجديد العهد معهم على التمسك بالكتاب والسنة الأحمدية، والمواظبة على قراءة أوراد الطريقة التجانية، والوفاء لعقد البيعة والولاء لملك المغرب أمير المؤمنين صاحب الجلالة محمد السادس حفظه الله ونصره، الذي في عنق كل المنتسبين للطريقة التجانية، وفاء وإلتزاما بمضامين وصية القطب المكتوم شيخ الطريقة ومؤسسها سيدي أحمد التجاني رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
إن مختلف الزيارات التواصلية المتعددة التي قام بها الشيخ العام للطريقة التجانية الشريف الجليل والعارف بالله سيدي محمد الكبير بن سيدي أحمد التجاني، إلى مختلف زوايا مشيخة الطريقة التجانية بدول إفريقيا جنوب الصحراء ودول الساحل، يمكن اعتبارها تجسيدا فعليا للدبلوماسية الروحية الموازية التي ترسخ في وجدان المنتسبين الأفارقة لهاته الطريقة الصوفية ارتباطهم الروحي بشيخهم القطب المكتوم سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه وأرضاه، ووفاءهم التلقائي لوصيته الخالدة التي دعاهم من خلالها إلى ضرورة الإلتفاف حول شخص السلطان المغربي ومناصرته ومبايعته ببلدانهم الإفريقية، وكلما قاموا بزيارة زاويتهم الأم بمدينة فاس العاصمة العلمية للمملكة المغربية، وهو ما أبانوا عنه بجدارة واستحقاق من خلال حفاوة الإستقبال التي يتنافسون بشغف وحب وتلقائية في تخصيصها لأمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره، كلما حل وارتحل بمختلف عواصمهم الإفريقية.
ولعل النجاح الباهر الذي حققته الزيارة الملكية الأخيرة لدولة نيجريا التي تضم لوحدها حوالي 50 مليون مواطن نيجيري منتسب إلى مشيخة الطريقة التجانية خرجوا عن بكرة أبيهم لإستقبال جلالته نصره الله، لَيُجَسد مدى ارتباطهم الروحي بالمملكة المغربية، ووفائهم لروابط البيعة والولاء التي كانت ولازالت وستبقى في عنق شيوخ ومريدي الطريقة التجانية، نصرة لملوك الدولة العلوية المغربية، ووفاء لروح القطب المكتوم شيخ الطريقة التجانية سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه وأرضاه، ومن خلالها حفدته الأبرار الذين كلما زاروهم في زوايا مشيختهم، أو ترأسوا مؤتمراتهم العامة ببلدانهم الإفريقية، إلا واستبشر هؤلاء المنتسبين للطريقة خيرا من هاته الزيارات، وازدادوا شوقا إلى التبرك من شيخهم الذي يرجع له الفضل وكل الفضل في نشر الدعوة الإسلامية السمحاء المبنية على الكتاب والسنة، والوسطية والإعتدال، ونبذ العنف والتطرف، في هاته البلدان الإفريقية.
ولعل العارف بالله الشيخ المعروف الكرخي كان محقا حين قال رحمه الله :
مَوْتُ التقِيِ حَيَاةٌ لاَ نَفَاذَ لَهَا قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَاسِ أَحْيَاءُ
ولله در أبي الطمحان رحمه الله حين أنشد قائلا :
وَإني مِنَ القَوْمِ الذِينَ هُمُ هُمُ إِذَا مَاتَ مِنْهُمْ سَيدٌ قَامَ صَاحِبُهُ
نُجُومُ سَمَاءٍ كُلمَا غَابَ كَوْكَــبٌ بــَدَا كَـوْكَبٌ تَـأْوِي إِلَيْهِ كَوَاكِبُهَ
إن الدبلوماسية الروحية الموازية في بعدها الإفريقي والعالمي، أضحت واجبا وطنيا يتعين على جميع شيوخ الطرق والزوايا الصوفية بالمملكة المغربية القيام به بكل جدية وتفان وإخلاص، إسوة بمشيخة الطريقة التجانية التي ساهمت إلى حد كبير في تجسيد الحضور المغربي الوازن في القارة السمراء، رغم كيد الكائدين ومكر الماكرين، حكام الجزائر أعداء وحدتنا الترابية.