مدينة فاس وما أدراك ما فاس والكل في فاس، عاصمة العلم والعرفان، ورمز الحضارة والإبداع وثقافة التكريم والإحتفاء، حظيت مساء الجمعة 17 مارس 2017 بشرف احتضان حفل تكريم أيقونة الشعر العربي الراقي، والترافع الجريئ الباهر واللامتناهي، المحامية البارعة، والأديبة المغربية المبدعة الرائدة، والإنسانة الطيبة المتواضعة الخلوقة، الأستاذة سميرة فَرَجِي.
من جهته معالي السفير والشاعر الكبير الدكتور عبد الولي الشميري، أبى إلا أن يشارك حضوريا هاته الشاعرة المغربية المقتدرة الأستاذة سميرة فرجي فرحة تتويجها المستحق بلقب سيدة العام الذي منحته إياها جمعية أبواب فاس، إلا أن ظروفا طارئة حالت دون ذلك مع الأسف.
ولكن وبالنظر إلى إصراره على مشاركة المحتفى بها هذا التكريم البهيج، أناب عنه في ترتيل تسابيحه العطرة التي جسدت شهادته النقدية في تكريم الأستاذة الشاعرة سميرة فرجي سيدة العام بلا منازع، من هي أوفى من الفجر، وأزهى من الربيع، الدكتورة الشاعرة المقتدرة، والجوهرة النفيسة النادرة، والإنسانة الودودة الطيبة الخدومة المتواضعة، الدكتورة لويزة بولبرس، مديرة منتدى الجامعة الدبلوماسي برئاسة جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس.
وبالنظر إلى القيمة المعرفية والصيغة الأكاديمية والبلاغة النصية، لهاته الشهادة النقدية، نضعها بالصوت والصورة والنص المكتوب، رهن إشارة عموم المثقفين عشاق الكلمة الرقيقة الراقية، وجمهور شاعرتنا الأستاذة المحامية سميرة :
سَمِيرَة فَرَجِي شَاعِرَةٌ تَسْحَرُ القُلُوبَ وَتُلَونُ الأَلْوَانَ
بسم الله الرحمان الرحيم
في رحلتي القريبة الى بلدي الحبيب : الذي تغرب فيه أحزاني، وتولد فيه الفصول الكبرى من سعاداتي، وخلال مهرجانين شعريين، وتكريمي في فاس في خريف السنة الماضية 2016م، التقيت بالشاعرة المغربية الفصيحة المبهرة سميرة فرجي، المغمورة بين نكران الذات وعصيان الظهور، كانت تواصالتنا الأولى بين التعارف والتآلف مناجاة، ومناوحات.
وفي رحلتنا لمهرجان الشعر العالمي في مدينة العيون، حيث العيون الملهمة، والعيون المتدفقة بالسرور والحب، والعيون المكتحلة بالرضى والسعادة، التقيت بشاعرة مطبوعة غزيرة الموهبة ملكة في عزة النفس الى درجة الإنطواء، ومليكة في التصوير الفني في أعماق النص الشعري الذي شاركت به في المهرجان، بالرغم مما تعاني من كثرة الخجل، رأيتها زاهدة في الظهور، ولولا فضل الله، ثم الدكتورة لويزا بولبرس سفيرة الثقافة والآداب والفنون، بين المشرق والمغرب، لما كان لي شرف التعرف بالشاعرة الموهوبة سميرة فرجي.
وكم وددت أن أحضر لأشارك في تكريمها اليوم 2017/3/17م في فاس ، لأنال شرف الجلوس على منصة العظماء وإلقاء شهادتي النقدية بين يدي عملاق الأدب المغربي وعميده، ولؤلؤ تاج العربية أستاذ الأجيال وأبو المبدعين، الأستاذ الدكتور عباس الجراري، الذي عزمت حضور تكريمه في مناسبة عيد ميلاده الأربعين مكررا، لكن أحاطت بي ظروف إنحبست ركابي عن الحضور، فإنها لم تحجب قلبي المشوق عن التحليق في سماوات المغرب الحبيب على الدوام.
وكم تمنيت اليوم أن أنال شرف الجلوس بقربكم وأن أزهو على منصتكم الميمونة بجانب طود المعرفة، وحصن التاريخ، وذروة الكمال : الأستاذ الدكتور عبد الحق المريني.
لكني أسفت عندما أيقنت أن ليل الحظ لم يقمر، وزرع التمني لم يٌثمر، فأنبت عني في ترتيل تسابيحي إليكم لمن هي أوفى من الفجر، وأزهى من الربيع، الدكتورة لويزا بولبرس .
أما الحديث العذب عن الشاعرة الملهمة سميرة فرجي، فالحديث عن شعرها متنوع والتقييم يختلف من قصيدة إلى أخرى، إنها في صدقها وجمال تعابيرها ذبيحة بين عناد الكتمان وشموخ الاعتزاز بالذات، ووهن تجلد الأنثى عندما تبحر بعيدة عن الشاطئ، من مرفأ العاطفة عند اشتعال اللهب بوقود الوجدان، وقد حاولت أن أعبر مسرعا بشواطئها الخلابة في قصائدها المبثوثة في تضاعيف ديوانها مواويل الشجن، اكتظ بشعرية متنوعة ومتعددة ومتموجة تحفر على المقاربة الموضوعية المتأنية.
غير أني اخترت الإبحار في نص واحد شغل بالي وفتنت بجماله وعذوبته ورقته، واستوطن حشاشة قلبي، النص الذي جمع بين شجن الروح، وتدفق العاطفة، وثورة الحب، وغطرسة الكبرياء، وذل الاعتراف بالندم، وضعف الانثى، وسلطان العشق، القصيدة التي رفعت فيها الشاعرة سميرة الحجب عن نفسها وعن موهبتها وعن عاطفتها وعن قدرتها التعبيرية، وعن حب القلب وحربه، ورفعت فيها راية الاعتراف بعناد الأنثى، وتقدمت نحو الحبيب بسرعة الريح دون أن تشعر أو تعترف بأنها تقدمت خطوة واحدة، لأن الشوق والحب يفقدان الذكر والانثى على السواء الشعور بالمكان الذي يقفان فيه.
لكن الصورة الجمالية في هذه القصيدة قد كسرت كل حواجز الشقاق، وأذابت جليد البعد، وأشعلت مشاعر دافئة غزيرة التدفق بالرغية الجامحة صوب المصالحة.
لقد أصابتني بحالة لا توصف، لقد شعرت بنوبة غيظ ورعشة غبطة، وبعض غيرة، من هذا النص الساحر الرقيق المعبر عن المشاعر الصادقة الجياشة التي قلما تعترف بها امرأة لرجل في حالة كهذه، حالة ضعف، وندم، واعتراف واستعصاء.
لن أخطو الخطوة الأولى تقول الشاعرة سميرة فَرَجي :
يا آسر القلب، هل جاءتك أخباري
الوجد بعثر مثل الريح أفكاري
طال الجفا وكلانا اليوم خافقه
يستل قسوته من صلب أحجار
أما علمت بأن الشوق يجذبني
إلى ديارك سرا مثل تيار
لكنه الكبر مثل السوط يجلدني
جلدا ويسبق خطوي رغم إصراري
ر مازلت أحيا عذابي فيك شامخة
أذوب عشقا وأطفي الناربالنار
وكعادة المحبين في حالة البعد والجفوة يظل كل منهما يتابع بصمت حال وأخبار الحبيب الآخر، فالشاعرة سميرة تتساءل مع من أسر قلبها :
هل جاءتك أخباري؟ سؤال يهز القلب هزا، وتأتي ذروة التصوير الجاذب بالإعتراف والضعف العاطفي فتتهاوى مع الدمع : الوجد بعثر مثل الريح أفكاري!
إنه اعتراف واضح بنفاد الصبر، وتقرير بالشعور المر لطول الجفوة والقسوة، إنها تعيش تحت سياط لهيب الشوق والحنين الباكي، إلى درجة الجذب!! إنها حالة تهد صخور الجفوة والشقاق، وتلئم شروخ القلب، وتسحق جبال العناد.
ولا تتركنا الشاعرة سميرة عند هذا الحد لكنها تبعث رسالة الطمئنينة لتؤكد أنها باقية على الوفاء في عذاب الحب، وتأتي الصورة الاكثر خلابة : “مازلت أحيا عذاب الحب”، وتردفها بذكر الشموخ الأنثوي، ثم لا تقوى إلا أن تعترف بالذوبان في عشقه، ثم اقفلت الرحلة الأولى من مقطوعتها الساحرة التي أزعم بأنها لؤلؤة تاج قصائدها الغزلية الرومانسية عندما ختمتها بخاتمة مستفزة في صورة بديعة خالبة جديدة ” أذوب شوقا، وأطفي النار بالنار”.
ثم تنتقل في التفاتة الندم على اعترافها لتلتقط جانب الاستمرار بين التصبر والعناد، والكبر، والحزن والاعتراف والمناجاة، وتمتطي فن البديع بشكل لافت غير متكلف ولا منحول، فقد ركبت المشاكلة اللفظية وطباقات الجناس البديعية اللفظية والمعنوية، دون شعور منها ، ولاتكلف فتقول :
مازلت أقبل أشواقي وأرفضها
كأنني قشة في كف إعصا
ما زلت أنسج أحلامي وأنقضها
وأوهم النفس في حبي بأعذاري
أبيت أكتم عشقا في العيون بدا
كالبدر مابين إضمار وإظهار
مازلت أقبل أشواقي، وأرفضها
مازلت أنسج أحالمي وأنقضها،
فما أحلى وما ألذ الطباق بين المتجانسين من الأفعال في ذات الموضوع وذات السياق، وأي جمال هذا الذي أضفته الشاعرة سميرة بين أقبل، وأرفض. وأنسج وأنقض.. أي نسج هنا، وأي نقض هناك، حيث جعلت من المعنوي محسوسا، ومن الأحلام المعنوية ذوات، وفي نفس اللوعة والشجون، والمضمون، تقول :
مابين إضمار وإظهار
وأسأل الروح والأحزان تعصرني
إلى متى سيظل الكبر قهاري؟
إلى متى سيظل الدمع منتحرا
ويصلب القلب بين الحب والعار
وتحول الأحزان تارة مفعول وتارة فاعل، دون تعمد ولا صناعة، إنها الموهبة الفطرية من الله ، كما تحول بين يديها دمع الحزن إلى ذات وهي مستمرة في طريق الانتحار، وينفصل القلب عن صدرها وتصعد به المشنقة وترفعه للصلب، ودماء الحب تتصبب منه، كل هذا حتى لا يكون عارا عليها أن تخطو الخطوة الأولى إلى الحبيب ،فما أشد عناد هذه الأنثى وكبريائها عندما تطلب ضمنيا من حبيبها الخطوة الأولى إليها ولا يبادر بها.
لن أخطو الخطوة الأولى إليك ولو
ختمت عمري أقاسي بين أسوا
لن أطلب الوصل حتى لو بقيت هنا
أسيرة لهوى صعب وجبار
لن أرفع الراية البيضاء خاضعة.
ولو محوت بكف الثأر أقداري
لا خطوة أولى، ولو بقيت سجينة وراء الأسوار،
لن تطلب الوصل رغم كبدها المتفتت وفؤادها المشتعل، لن ترفع راية الاستسلام ولوكلفها خسارة القدر الجميل، يالك أيتها الشاعرة الموهوبة الناعمة الرقيقة من امرأة معاندة مستعصية جبارة.
ويا ويح قلبك يا أخي يا رجل يا آسر قلبها من معاند بطئ الخطو، متمرد على النداء متلذذ بهذا القدر من العذاب، لقد أشفقت عليكما معا، وغضبي عليكما يشتد كلما زاد التشدد والبطء والكبرياء، فليس عندي ولا في مذهبي بين الحبيبين غرور ولا تجبر، ولا كبرياء.
وهذه مدرستي، لكن الأمية الفطرية بأبجديات سورة العشق، وذوبان الحبيب في حبيبه وانكشاف كل الحواجز، قد منحتنا فرصة احراق وقود الموهبة لدى الشاعرة سميرة فرجي، فتدفقت بغرر المعاني والصور والبديع، وكشفت عن شاعرة مطبوعة، وتتوالى الاعترافات تلو الأخرى وتزداد معها جزالة اللفظ، وعمق المعنى، وجمالية الصور، و تتفاقم في تضاعيفها ثورة الإصرار، والعتاب المستعطف، في ضعف نفسية المرأة المقهورة، بين الاعتراف والمكابرة، روح تستبد بها لواعج الشوق ولهب المشاعر :
ما ذا يفيدك إبحاري أنا، وأنا
في العشق غارقة من دون بحار؟
إني أكابد هما لست تعرفه
ولست تشهده في عز أسحاري
وتنتقل بخيالها الحزين المحبط إلى مرحلة افتراضية الموت من الحزن، من العشق، من قهر الكبرياء، وتناشده أن لايصدق إنكارها ولو ماتت من عشقه… أي عناد جبار فيك يا سيدتي؟
فإن أتوك وقالوا مت عاشقة
فلا تصدق إذا أنكرت إنكاري
فأكتم بريك هذا السر إن به
ذلي وعزك وانشر كل أسراري
ولن أمانع يا جبار ثانية
إن كنت تنوي بهذا الصمت إقباري
يحلو لي الموت لو أعطيتني قلما
من تحت لحدي لأنهي فيك أشعاري
وما تزال وهي مقتولة بالعشق مدفونة في لحد الغياب الكبير، تناشده البقاء على غرورها بعدم افشاء سر سبب موتها، ثم تسمح له بنشر كل ما شاء .
فيالك من شاعرة عنيدة، وامرأة مكابرة، وطالما يحلو لك الموت إذا أعطاك قلما لتكتبي فيه من تحت اللحد بقية أشعارك، فأنت تجاوزت مدى لم يبلغه قيس وليلى، وكثير وعزة، وقهرت العاشقين والشعراء الغزليين من بعدك.
وأعترف أنك بهذه القصيدة بلغت عرش الأميرة المتوجة للشعر الفصيح، الموزون المقفى البليغ السهل الممتنع، فهنيئا لك موهبة الله، وهنيئا لمن تعلق به قلبك، ومن سعادتي أن أتبرع لك بقلمي نيابة عنه لتواصلي به كتابة بقية أشعارك من تحت لحدك.
وطوبى لقلمي الذي يدفن إلى جانبك ليبعث شفيعا لي عن ذنوب أشعاري يوم البعث والنشور.
وأبارك تكريمك الذي أعتبره تكريما لي وللشعراء جميعا
برمنجهام في 10 مارس 2017
الدكتور عبد الولي الشميري
رئبس مؤسسة الإبداع للثقافة والآداب والفنون – صنعاء
رئيس منتدى المثقف العربي – القاهرة