تميزت الندوة العلمية التي نظمها معهد صروح للثقافة والإبداع برئاسة الشاعرة المقتدرة الأستاذة نبيلة حماني، طيلة يوم السبت 7 يناير 2017 بقصر المؤتمرات بمدينة فاس حول موضوع :
“عمق الهوية المغربية في أدب الصحراء : ابن رازكة نموذجا”
بالمداخلة القيمة التي ألقاها المفكر المغربي، والناقد العربي، الأديب الدكتور خالد التوزاني[i] تحت عنوان :
الأدب الصوفي في الصحراء المغربية : الهوية والإمتداد
وبالنظر إلى حمولتها الفكرية، وقيمتها العلمية، ورمزيتها التاريخية، يسرنا أن نقدم لقرائنا الأعزاء نصها الكامل، مرفوقا بالشريط الفيديو التالي، لكل غاية مفيدة :
من بين أهم السمات التي طبعت الأدب الذي صدر عن المغاربة على امتداد التاريخ، والشعر منه على الخصوص، يبرز ملمحان، هما الواقعية والالتزام، إذ لم يكن الشاعر المغربي يعيش بمعزل عن مجتمعه، ولم تكن اهتماماته الشعرية بعيدة عن مجريات الواقع الذي يعيشه محليا ووطنيا وكذلك عربيا ودوليا، بل كان يمثل صدى هذا الواقع؛ يتفاعل معه فيبدع شعرا ملتزما بقضايا الهوية والإنسان.
ولم يعتبِر الشعراء المغاربة هذا التوجه الإبداعي ترفا أدبيا أو حدثا ظرفيا مؤقتا، بل عدوه واجبا وطنيا مقدسا ودائما، يعبرون من خلاله عن ارتباطهم بهذه الأرض، ويتجلى هذا الارتباط في تجسيد الهوية المغربية والدفاع عنها، وذلك باغتنام بعض المناسبات لإعلان تشبثهم بهذه الهوية التي تشكل جوهر وجودهم، ومنها وصف الاحتفالات بأهم الأعياد الوطنية وخاصة عيد العرش المجيد، حيث تفنن الشعراء المغاربة في وصف أجواء الفرح بالعيد الوطني السعيد، مما يفسر كثرة القصائد في هذا المجال، حتى عدها بعض الباحثين غرضا شعريا مستقلا له خصوصياته وسماته، أطلقوا عليه “فـــــن العرشيات”، علما أن الشعر عند المغاربة لم يكن نخبويا، وإنما كان ظاهرة عامة عند أغلب المثقفين، حيث لا يستحق الاعتراف منْ كان لا يقول الشعر، فالشعر مكون مركزي في ثقافة المثقف المغربي.
ولذلك مثّلَ الشعرُ ديوان الهوية المغربية وسجلها الحافل بمظاهر الحياة المغربية في أدق تفاصيلها، وبالطبع إلى جانب المكون الفقهي والعقدي الذي يشكل أيضا جوهرا أساسا في التكوين الديني للمثقف المغربي، حيث أسهمت بعض العوامل في جعل الأديب المغربي ملما بالفقه قبل الأدب، ومنها:
بروز المغاربة في العلوم الشرعية، وعنايتهم بالاتجاه السني في التصوف، وانصرافهم عن الذات والاهتمام بالجماعة، ودفاعهم عن الاسلام والبلاد، وهي عوامل جعلت شخصية الشاعر المغربي منزوية خلف شخصية الفقيه الذي يهتم بالعلم قبل الفن، وبالحقيقة قبل الجمال.
ما الذي يميّز الشعرَ الصوفيَّ في صحرائنا المغربية؟ بداية، يمكن إدراجُ كثيرٍ من الشعر الصوفي ضمن الأدب الإسلامي أو الأدب الديني، فمن الأكيد أن الأدب المغربي هو أدب ديني في معظم إنتاجه، وهو الأدب الرسمي والمهيمن في فترات تاريخ الأدب العربي في المغرب، وقد “تضمن هذا النوع من الأدب العديد من الخصائص وأسرار الهوية الثقافية المغربية”[ii]، ونستحضر منها فكرة الوحدة باعتبار الهوية كُلاًّ لا يتجزأ.
تشغل فكرة الوحدة في الأدب الصوفي عددا كبيرا من شعراء الصحراء المغربية، حتى إن بعضهم قد جعل الوحدة شعارا روحيا وأخلاقيا قبل أن يكون وطنيا وإنسانيا، ويتعلق الأمر بالشيخ ماء العينين في نظمه المشهور “إني مخاوي”، ومطلعه:
إني مخاوٍ لجميع الطُّرق أخوة الإيمانِ عند المتقّي
ولا أفــــرّقُ للأوليـــاءِ كـمـَنْ يُـفــرِّقُ للأنبيــاءِ
قال تعالى المومنون إخوة وعدمُ التفريق فيه أُسوَة [iii]
فهذا الشيخ الصوفي لم يوحدّ الطرق الصوفية فحسب، وإنما وحّد القبائل الصحراوية لمواجهة القوات الأجنبية، كما غلب على شعره الصوفي الطابع العملي الذي يميل إلى الزهد والأخلاق والرقائق بعيدا عن كل نزعة إشراقية باطنية، الشيء الذي عكس هوية الأدب المغربي القائم على الوسطية والاعتدال في الفكر والسلوك.
ومن مظاهر الوحدة أيضا ذلك الالتحام الوجداني بين ملك وشعبه، حيث المحبة المتبادلة والإخلاص المشترك، وفي هذا المعنى تقول الشاعرة خديجة أبي بكر ماء العينين :
يُبادلك الإخلاص شعبك والهوى |
ومن يَهْوَ لا يُخفي وليس بِجَاحِدِ[iv] |
إنها علاقة محبة لا تفنى ومودة لا تبلى بين شعب محب وملك محبوب، انعكست في جل أغراض الشعر المغربي عموما والأدب الصحراوي خصوصا، ففي بعض قصائد مدح النبي صلى الله عليه وسلم تظهر بجلاء محبة المغاربة لملكهم، فيتوسل الشاعر المغربي بالنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم لصيانة البلاد وأن يحفظ اللهُ سِبط النبي المرتضى أمير المؤمنين ملك المغرب، وفي هذه المعاني الوطنية السامية تقول الشاعرة خديجة أبي بكر ماء العينين (من قصيدة: نفحة أرج الزمان بنشرها، ألقتها بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف بالمجلس العلمي بالرباط، سنة 1999) :
يا مولـدَ المختارِ هــــــــذه أمتــي |
فِي حَفْلِهَا المَيْمُونِ شَمْلٌ لا اِفترق |
يسعى لجمع الشمل مَنْ وَرَثَ العُلَى
مَلِـكٌ تُفدِّيهِ النفوسُ بما اكْتَفَــــتْ |
والحِلم عن جَـدٍّ كريـمِ المُعْتَـــرَقْ
مِنْ حُبِّهِ الصِّرفِ اللذيذِ المُعْتَنَــقْ |
إني دعوتُـــكَ خالقي، وتوسُّلـي
واِحْفَـظْ لنَا سِبْـطَ النبي المُرتضَى |
بالمصطفى، فَصُنِ البِلادَ مِنَ الوَنَقْ
حامي الحِمَى مِنْ كُلِّ أَسْبابِ القَلَقْ [v] |
كما ربطت هذه الشاعرة بين تحرير الصحراء المغربية وتحقيق الأمن في جميع ربوع الوطن، بعد قطع دابر الطُّغيان وتطهير البلاد من وصمة الدخلاء بإجلاء المستعمر الإسباني من صحراء مغربنا، مادحة الملك الراحل الحسن الثاني نور الله ضريحه:
في عهده عَـمَّ البلادَ، شمالَها | وجَنُوبَها كل الرضى بأمـــــــــــان |
إذ طَهَّرَ الوطن الحبيب بعزمه
يوم الجـلاءِ تقهقروا بمسيـــــــرة |
من وصمة الدخلاء مِنْ إِسْبَانِ
خضراء تقطع دَابِرَ الطُّغيــــــــــانِ |
وبجنده الجرار قد قصم العِدا
أرضى الإلـهَ مُحَرِّرٌ لبــــلادِهِ |
بين البطاح ومنتهى الكثبـــــــــان
ومُكافِحٌ في السِّر والإعـلان[vi] |
وإذا كانت قضية الوحدة الترابية للمملكة تعني وحدة التراب متجسدة في استرجاع الصحراء المغربية، فإن الوحدة الوطنية تعني وحدة الإنسان، فلا يمكن فصل المواطن الصحراوي عن أخيه في باقي جهات المغرب، ولذلك تعتبر بيعة أهل الصحراء لملك المغرب على مر التاريخ وتجديدها باستمرار في المناسبات الوطنية عاملا لتعزيز وحدة الإنسان المغربي وتقوية أواصر الوطنية والانتماء للعرش العلوي المجيد، فهذه البيعة قديمة تؤسس لتلاحم تاريخي عريق بين كل المغاربة من طنجة إلى الكويرة، كما تصف ذلك الشاعرة خديجة أبي بكر ماء العينين في قصيدة لها بعنوان: يا هيئة الأمم، جاء فيها:
من طنجة لگَوَيْـــــــرَةٍ | قد وَحَّدتنا لَوْ تَسَلْ |
وطنيــــة وتـــــــــآزرٌ
يا هيئة الأممِ اعْلَمِي |
وتراحُمٌ منــــــــــذُ الأزل
وتأكَّدي يوم الفـــصل |
أنَّا مغـاربــــــــــــة لنا
وتعانقت أرواحـــــــنا كل السرور ورَفْرَفَتْ فلتقبلي أو فارفضــــي قد بايعـت سكانــــــــــها خضلت رباها وانتشر حط الوفاء بـــــــــها إذنْ |
تاريخنا بهر الـــــــــــدُّول
بعد المسيرة واكتمـل راياتنا فــوق القلــــــــــــل صحراؤُنا لا تبتــــــــــذل ملك البلاد بـلا ملــــــل عصفورها واليُمْنُ حَلْ صُعِقَ المعمِّرُ فارتحلْ [vii] |
حيث تحكي الشاعرة في هذه القصيدة تاريخ الإنسان المغربي، الذي تجمعه وطنية وتآزر وتراحم منذ الأزل بين كل مكوناته، وفي مختلف الجهات، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، وزاد من هذا التلاحم تعانق الأرواح بعد المسيرة الخضراء واكتمال السرور برفع العلم الوطني شامخا في ربوع الصحراء المغربية، فلا يمكن للأمم المتحدة ولا أي جهة أخرى أن تزعزع هذه الوحدة الأصيلة، وسكان الأقاليم الجنوبية لا يملون من تجديد البيعة لملك المغرب كل وقت وحين تأكيدا على مغربيتهم ودحضا لكل المشككين، فالوفاء من شيم المغاربة ولن يفرق كلمتهم معمر ولا مستعمر ولا انفصالي خائن، وقد عبّر شعراء الصحراء المغربية، عن تشبثهم بالعرش العلوي المجيد، واعتزازهم بالانتماء للمغرب، سواء في شعرهم الذي نظموه بالفصحى أو وبلهجة حسانية، وفي هذا المعنى نظم الشاعر الحارثي سيدي احمد قصيدة في مدح ملك المغرب سماها: “مَارت عن ذا المليك احنين” باللهجة الحسانية الصحراوية، جاء فيها :
سكان الصحر مجتمعين | من الكويرة وفكل ابلـد |
بيعتهـم للعلـوييـــــــــن | اجـد اجليها للجــــــد[viii] |
هكذا، عبَّر الشاعر المغربي في الصحراء عن وفائه للهوية الوطنية، مؤكدا الوحدة بين مكونات هذه الهوية، فالإنسان المغربي له وطنية واحدة أينما حل وارتحل، وحيثما وُجد في الوطن أو خارجه يظل وفيا لمغربه وملكه، مرتبطا بما يميز كل المغاربة من خصوصيات الوفاء للعرش العلوي المجيد، وبذلك ندرك عمق الارتباط الوثيق بين الشعر المغربي وقضايا الهوية، فليس الشاعر أو المبدع مجرد صدى للمشاعر الإنسانية المرتبطة بهموم الإبداع فحسب، وإنما الشاعر أو الأديب عموما – على الرغم من الأدوات الفنية التي ينظم بها معرفته في موضوع جمالي- يعبر عن موقف سياسي مشروط بموقف اجتماعي، يؤصل به التفاعل بينه وبين المجتمع/القارئ[ix]. ومن ثم، لا غرابة أن يحمل الشاعر المغربي هَمَّ الوطن، فينخرط في الدفاع عن قضاياه، ولا يبخل بشعره في سبيل ذلك، كما قالت الشاعرة خديجة أبي بكر ماء العينين:
مَنْ كانَ موهوباً وضَنَّ بشعره | يوما على أوطانهِ فَهْوَ الشّحاح[x] |
ختاما، إن حضور الهوية في بؤرة اهتمامات الأدب الصوفي في الصحراء المغربية، قد شكّل جانبا من جوانب الدفاع عن الوحدة المغربية ترابا ووطنا وعقيدة وملكا وهوية، ولا شك أن الشعر الصوفي في الصحراء المغربية لم يكن مرتبطا بحدث تاريخي مضى وانقطع، وإنما احتلت الهوية المغربية بُعداً حيا في نفوس أدباء الصحراء غير مرتبطين بزمان ولا مكان، ولذلك سارع كل المغاربة لبيعة الملك محمد السادس فور رحيل والده المنعم الملك الراحل الحسن الثاني نور الله ضريحه، ليستمر الوفاء وتتعمق معاني الوطنية الحقة، حيث حب الأوطان من الإيمان، وفي بعض هذه المعاني تقول الشاعرة خديجة أبي بكر ماء العينين :
محمَّـدُ بايعناكَ بِـرًّا بِجَدِّكُـــــــــمْ
ومَنْ مِثـلُ شَعْبٍ مَلَّكَ اللهُ أَمْــــرَهُ يصُونُكَ رَبُّ العرشِ من شَرِّ حاسدٍ |
ومن حبّ آل البيتِ فيهِ لِعاقِدِ
سليلَ رسُولِ اللهِ نَبْعِ المَحامـِــــــدِ ويحميكَ للأوطانِ مِنْ كيدِ كائِدِ[xi] |
نخلص إلى فكرة جوهرية مفادها الارتباط الوثيق للشعر الصوفي في الصحراء المغربية بعمق الهوية المغربية وثوابت الوطن وخصوصيات الإنسان المغربي المحب لوطنه والوفي لملكه، كما أن هذا الشعر بما حمل من روح الوحدة يمثل “وثيقة تاريخية واجتماعية وثقافية من الأهمية بمكان تدل على الترابط المتين والتلاحم القوي بين المغرب وصحرائه المسترجعة”[xii]، وهو أيضا دليل قاطع على تفاعل مختلف مكونات الثقافة المغربية ومظهر من مظاهر حيويتها وخصوبتها وتفتحها، فضلا عن ارتباطها بالواقع الاجتماعي ومواكبتها لتطورات العصر، وهو يُظهر من جهة أخرى الدور الذي اضطلع به الأدب الصوفي في ترسيخ مكونات الهوية المغربية وامتداداتها في تقوية أواصر الوحدة الوطنية.
[i] باحث في الأدب المغربي touzani79@hotmail.com
[ii] عبد الوهاب الفيلالي، عوارف معرفية من التصوف وأدبه في المغرب، دار الرشاد الحديثة، المغرب، ط:1، 2010، ص: 97.
[iii] ينظر النظم كاملا ضمن: الشيخ ماء العينين، مفيد الراوي على أني مخاوي، ص: 75.
[iv] خديجة أبي بكر ماء العينين، ديوان: نفثة عاشق، تقديم: محمد الظريف، منشورات مؤسسة الشيخ مربيه ربه لإحياء التراث والتبادل الثقافي، مطبعة بني يزناسن، سلا، ط:1، 2000، ص: 62.
[v] المرجع نفسه، ص: 61.
[vi] خديجة أبي بكر ماء العينين، ديوان: نفثة عاشق، ص: 14.
[vii] خديجة أبي بكر ماء العينين، ديوان: نفثة عاشق، صص: 55- 56.
[viii] ديوان: باقة شعر من أقاليم الجنوب، تأليف جماعي، احتفاء بالذكرى الرابعة والعشرين بعيد العرش المجيد، قصائد باللهجة الحسانية، منشورات وزارة الشؤون الثقافية بالمغرب، مارس 1985، ص: 63.
[ix] الإبراهيمي شكيب، هموم إبداعية وواقع مضاد، مجلة الزمان المغربي، ع: 11، السنة: 4، شتاء 1982، صص: 5-7.
[x] خديجة أبي بكر ماء العينين، ديوان: نفثة عاشق، ص: 21.
[xi] خديجة أبي بكر ماء العينين، ديوان: نفثة عاشق، ص: 63.
[xii] من تقديم ادريس نقوري لديوان: الشيخ محمد الإمام، ص: 6.