رسالة إلى صديقي السوري {عندما يَجْمَعُنا حُبُّ الأوطان لا تفرقنا الغُرْبَة}: بقلم الأستاذ الدكتور سعيد كفايتي

رسالة إلى صديقي السوري {عندما يَجْمَعُنا حُبُّ الأوطان لا تفرقنا الغُرْبَة}: بقلم الأستاذ الدكتور سعيد كفايتي

رسالــة إلــى صَدِيقـي السُّـوري

{عِنْدَمَــا يَجْمَعُنَــا حُـبُّ الأَوْطَـــان لاَ تُفَرِّقُنَــا الغُرْبَــة}

بقلم: الأستاذ الدكتور سعيد كفايتي

منسق ماستر الدراسات السامية ومقارنة الأديان

جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس

لطالما ربطتنا علاقة غربية ببعض الأماكن التي تستعصي على الفهم أو تتعسر على الشرح والتفسير؛ فنتقبل الأمر من دون إجهاد أو تقصير في البحث عن الأسباب الكامنة وراء ذلك؛ لعلها حميمية المكان الذي نشأ وتربى في ذاكرة مواطن من أقصى المغرب بدولة هي بمثابة الشامة في بلاد الشام نعم إنها سورية.

قد يكون للتشابه والتقارب في الطبيعة والطبائع وأشياء أخرى أثر في ذلك.

لكن يبدو لي أن علاقاتنا المتشابكة بالأمكنة، وتأرجحها بين الحب والكراهية، والبعد والقرب تمر، في الغالب الأعم، عبر الصداقات التي ننسجها مع الأشخاص، هم أشخاص من لحم ودم، وعلى أرض الواقع، وليس عبر شخصيات رقمية.

وبما أن تبادل الزيارات، ومتعة الرحلات لم تكن متاحة في زمننا الغابر إلا لفئة محدودة، فإن واحدة من حسنات الدراسة خارج البلد الأصلي أنها تمنح للواحد منا مناسبة ذهبية ليعاشر عن قرب نماذج إنسانية تشترك معه في اللسان أو في غيرها من المشتركات الأخرى.

ومن حسن حظي أن القدر جمعني ذات يوم شتائي بارد، وبمحض الصدفة، وفي إحدى زوايا مكتبة “بومبيدو” الفسيحة بطالب سوري ينتقل بهمة ونشاط ملحوظين بين رفوف الكتب، متأملا عناوينها، فكان التعارف الذي تمتد جذوره إلى الآن.

لم يكن لقاء عابرا كما يحدث في كثير من الحالات؛ بل كان نقطة انطلاق نحو علاقة صداقة وأخوة متينة بدأت أول وهلة بتقاسم للسكن طال بضعة سنوات، وتعمقت بتشارك أحلام صغيرة قد لا تتعدى أحيانا العثور على عمل مؤقت، كما كانت تتسع وتكبر أحيانا أخرى، إلى درجة أننا كنا لا نقوى على حملها.

وعلى الرغم من كل شيء؛ ولأننا ابتُلينا بحُب الثقافة، كانت أول خطوة أقدمنا عليها هي تأسيس جمعية أنكيدو ( وهو اسم شخصية محورية في ملحمة جلجامش الشهيرة)، واستمتعنا كثيرا بهذا الاسم.

أولا لأنه ينتمي إلى مدونة الشرق القديم، وثانيا لأنه يرمز إلى الحياة البرية والصداقة، وثالثا لأن الاسم له إيقاع خاص في اللغة الفرنسية.

أما الخطوة الثانية فتمثلت في صدور أول عدد من مجلة “همزة وصل” التي كنا نأمل أن تجمع شمل المغتربين، وأن تصلهم ببلدانهم الأصلية، كان عددا يتيما، مع الإشارة إلى أننا توصلنا من المكتبة الوطنية بباريس بلائحة من عشرات الأرقام لاستعمالها في أعداد لاحقة.

عشنا معا أياما وليالي من الفقر المدقع الذي لم يكسر عزيمتنا كشباب طموح يُحول كل محنة لمنحة، إذ لازلت أتذكر كيف أن صديقي السوري بقامته الفارعة، والشيب الذي يخط شعره، كان يعجن بعناية فائقة الخبز حسب الطريقة المغربية، لأننا كنا عاجزين تماما عن شرائه من المخبزات الفرنسية، و كنا نسير الكيلومترات على أقدامنا، مُوفرين ثمن وسائل النقل لشراء ما هو أهم.

لم تكن لنا الجرأة لمغامرة الركوب في “الميترو” دون تذكرة كما يفعل الكثير من الشباب، فعزة النفس أكبر من أن يُهينها أي مراقب للمواصلات بباريس. وفي المقابل قضينا لحظات كثيرة من الرفاهية والرخاء بعد أن تحسنت وضعيتنا.

نحن معا من بلدان العالم الثالث، ظروفنا الاجتماعية تكاد أن تكون متقاربة، لكن ما كان يُفرقني عن الصديق السوري هو أن نصيبي من الحرية كمواطن مغربي كان أكثر بكثير وحظي أوفر مما في حوزته.
لم يكن المغرب آنذاك واحة للديمقراطية؛ ولا يمكن لأي دولة أن ننعتها بذلك حتى في أعتى الديمقراطيات.
وأتذكر حينما كنت أطلعه مرارا على بعض صحف اليسار، جريدة “المسار” مثلا، إذا لم تخني الذاكرة كان يندهش بقوة من جرأتها في التعبير، وحديثها عن المعتقلين، واحتجاجات الطلبة، والبيانات وغيرها من أخبار الساعة، وكان يستفسر متعجبا:
ماذا يريد هؤلاء أكثر من هذا، ما حققه المغرب حينئذ كان بالنسبة إليه كافيا؛ بل أكثر من كاف، هذه الجملة التي رددها لا تزال تطن في أذني بحذافيرها كأني أسمعها الآن.
ومن خلال حواراتنا التي لا تنتهي، خاصة ليلا حين يحلو السهر، ويستمتع منتشيا بشرب الشاي الأسود، ولف ورقة السيجارة بعناية فائقة حينها تعرفت على سوريا بكل خباياها وخفاياها، تعرفت على سوريا التي عاشت في مرحلة ما من العصر الحديث تجربة متميزة في التعدد الحزبي، وكيف تخلت عنها لتنتقل إلى تجربة مريرة تكتم الأنفاس، وتلجم الأفواه، وتحصي الحركات والسكنات.
تعرفت على حماة وكيف دُكت دكا وسُويت بالأرض، وكيف أصبح الانتماء إليها تُهمة.
تذكرت صورة الأسد الأب مُعلقة في غرفته، وبمحاذاتها يتربع على الرف بشموخ كتاب مصطفى طلاس (وزير دفاع حافظ الأسد) من ورق صقيل يحمل عنوان “كذلك قال الأسد”.
عشرات الصور لا تزال راسخة في ذهني تأبى الانمحاء، وعدد لا يُحصى من الروايات التي جعلت سوريا برقتها وحلبها ودير زورها وحمصها ودمشقها ولاذقيتها كتابا مفتوحا أمام عيني اللتين تتسعان كلما استغرق في الحكي، أغناني صديقي الصدوق بموسوعيته، ومهارته في الحكي عن العودة إلى الكتب والموسوعات.

كان صديقي السوري، عندما يسرد بتلقائية قصصه التي تقبع في صدره، تخنقُه بعض الصور فأحس بغُصة في حلقه تُطبق عليه، غير أنه يستمر غير آبه بها، وأراه وهو يسرد كل تلك التفاصيل وكأنه يُحدث نفسه فيغيب وجودي في جلستنا من خلال صمتي.

لقد أدركت حينها تغول الكثير من النُصيريين، وَأَلْمَمْتُ بجانب صغير من معاناة الأغلبية السُّنِّيَّة، وعايشت عن بعد القليل من ألمها الكبير الذي يصعُب وصفه.

حينما كنت أتصل بالهاتف الثابت بأسرتي في المغرب، كان يكفي أن أرقن الأرقام لأجد نفسي للتو مخاطبا والدتي العزيزة حفظها الله أو أي واحدا من أفراد عائلتي، أما صديقي السوري المسكين فكان ينتظر أياما معدودات ليحظى في الأخير بسماع صوت العائلة.

هناك صور عديدة مما حكاه لي لا أزال أختزنها في ذاكرتي، هذه الصور جعلتني أومن بأننا في المغرب متقدمين إلى درجة بعيدة في مجال الحريات وحقوق الإنسان، وحينما اندلعت ثورة الربيع العربي لم يكن بمقدورها أبدا أن تنجح في المغرب.في أواخر حياة المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه طُويت إلى الأبد صفحة الاعتقال التعسفي، وعوضت الدولة المتضررين من هذه المرحلة بما يليق بهم، وتم تأسيس مجلس الإنصاف والمصالحة، كانت تجربة عربية غير مسبوقة.

ودخل المغرب في تجربة حكومة التناوب التي تزعمها بكل رمزيته الراحل عبد الرحمن اليوسفي، وجاء دستور 2011 بأفكار جديدة قطعت الطريق على كل من يصيدون في الماء العكر، ونعم الإسلاميون لأكثر من عقد من الزمن بالحكم.وها هو الآن مغربنا الحبيب يسير بخطى حثيثة نحو تحقيق مكاسب في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، (الطريق لا يزال طويلا)، لكن مغرب التحديات لا يقهره أي شيء.

من المفارقات أن صديقي السوري تنبأ بكل شيء، وبتعبير آخر أقل حساسية، كان له حدس مسبق بأن شيئا ما سيقع في سوريا بل في بعض الأحيان كان يصوغ سيناريوهات النهاية، تذكرته إبان الربيع العربي حينما كانت الحناجر تطلب ” حرية بس”، تذكرته عندما تعامل النظام بوحشية مع هذه المطالب البسيطة، وما أعقب ذلك من تقتيل وذبح ونزوح قد يكون هو الأعنف في العقود الأخيرة.

تذكرته، وأنا أرى بأم عيني السوريين والسوريات يبحثون عن لقمة خبز في مفترق الطرق وأمام أبواب المساجد في بعض المدن المغربية، ناهيك عن ملايين اللاجئين في بلدان عربية وغربية مختلفة.

تذكرته مجددا، وأنا أتابع بقلب مكلوم، وعين تدمع، مشاهد كأنها جزء من رواية أبوكاليبسية، ما كان مستورا أو كان مجرد روايات يتناقلها الحقوقيون، والهاربون من جحيم “البعث” أصبح فُرجة يراها العالم أجمع، ما كان يتوقعه صديقي السوري قد حدث فعلا.

آمل أن تجد سوريا الطريق مُعبدا نحو السلم والتعايش والتفاهم بين جميع الأطياف، وأن تتحرر من القوى الخارجية التي تتربص بها للانقضاض عليها، فكل ما نخشاه أن تتكرر قصة الانقسام والتناحر، وأن تتحول إلى مادة دسمة لنشرات الأخبار ، وخبر عاجل، و تقارير الخبراء.

آن الوقت لكي يستريح صحفيونا من نقل الخبر الممتزج بالدماء والجثث وأدخنة المعارك، كان الله في عونهم، من نقل مثل هذه الأخبار التي لا تفرح.

وإلى ذلك الحين تحية لكل من يُؤمن بأن الحضارة العربية الإسلامية التي كانت في يوم من الأيام مثالا حيا للتعدد العرقي والديني والثقافي، لا يضيرها في شيء أن يعيش أبناؤها اليوم نفس التجربة، لكن برؤية جديدة، ونفس جديد.


اترك تعليقاً