الرباط تواصل فرض الواقعية في سياستها الخارجية، وترفض المشاركة في اجتماع “البريكس” بجنوب إفريقيا
بقلم : الدكتور كريم القرقوري
باحث في العلوم السياسية والإعلام
تواصل المملكة المغربية تجسيد كل معاني الوضوح والواقعية في سياستها الخارجية الحازمة والحاسمة، بوضع مقياس دقيق لصدق الصداقات ونجاعة الشراكات الخارجية، باعتبار قضية الصحراء المغربية النظارة الذي ينظر بها المغرب إلى العالم، والبناء المعياري الذي يضع كل طرف في موقعه الحقيقي.والمتتبع لسياسة المغرب الخارجية خلال السنوات الأخيرة، يسجل أنها باتت تقوم على رفض أي تعاون من أي دولة تعادي وحدته الترابية، مهما كان حجمها أو وزنها السياسي والاقتصادي في الساحة الدولية، ولعل آخرها رفضه لدعوة صدرت عن جنوب إفريقيا بصفتها الوطنية، للمشاركة في اجتماع مجموعة بريكس/إفريقيا، وليس بمبادرة من أعضاء مجموعة “بريكس” أو الاتحاد الإفريقي.
وبحسب وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، فإن دعوة المغرب لحضور اجتماع هذا التكتل الاقتصادي، اتسمت بالكثير من الخروقات البروتوكولية المتعمدة والاستفزازية، كغيره من عديد الدول والكيانات التي دعيت بشكل تعسفي من قبل البلد المضيف، دون أي أساس حقيقي، أو استشارة مسبقة مع البلدان الأعضاء الأخرى في مجموعة “بريكس”، ذلك أن هذا الاجتماع لم يكن واردا أبدا، على عكس ما تدعيه بريتوريا.ويأتي رفض المغرب لحضور اجتماع مجموعة “بريكس”، بسبب المواقف والسلوكات العدوانية والعدائية المطلقة لدولة جنوب إفريقيا تجاه المملكة المغربية، ومواقفها السلبية والدوغمائية الممنهجة، على الصعيد الداخلي وفي إطار الاتحاد الإفريقي، المعادية للمصالح العليا للمغرب، وفي مقدمتها قضية الصحراء المغربية.ويبدو واضحا أن هدف جنوب إفريقيا بزعمها تقديم الرباط لطلب الإنضمام إلى تكتل “البريكس” في غياب تأكيد رسمي من المملكة المغربية، هو ترويج لتصور مكشوف مفاده بأن دولا وازنة في القارة مثل المغرب، تطلب الانضمام لهذا التكتل.وواقع الحال أن دولة جنوب إفريقيا أقدمت على هذه الخطوة بغرض تحقيق أهداف سياسية تخدم مصالحها وقضاياها الداخلية، ويتضح هذا المسعى من خلال الدعوات الموجهة والكيانات التي تسعى لفرض مشاركتها في هذا الاجتماع، ذلك أن لبريتوريا مشاكل داخلية اليوم، ناتجة عن انهيار الحزب الوطني الحاكم بسبب محاكمات وفساد داخل تنظيماته، ومع اقتراب انعقاد مؤتمره العام باتت المعارضة تجتمع من أجل وضع حد لهيمنته منذ أزيد من ثلاثين سنة.وكما اعتادت جنوب إفريقيا على توظيف الصراع المغربي الجزائري وقضية الصحراء المغربية، وعددا من القضايا لاكتساب أصوات داخل الرأي العام بالبلاد، والمتتبع للأحداث فإنه يستحضر ما صدر عن بريتوريا عبر التاريخ من عداء للمغرب، وهي الدولة المعروفة بعدائها للوحدة الترابية المغربية.ويكفي هنا أن نذكر مناورات نكوسازانا دلاميني زوما Nkosazana Dlamini-Zuma، حينما كانت رئيسة للمفوضية الإفريقية، حيث كانت تضع عراقيل لعودة المغرب للاتحاد الإفريقي، ليظهر في ما بعد أنها كانت توظف الاتحاد والمفوضية الإفريقية للترشح لرئاسة دولة جنوب إفريقيا.
وكما يسجل التاريخ أن جنوب إفريقيا لم تنجح على الدوام في لم شمل الدول أو في تحقيق دبلوماسية مثالية، تسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة وتطوير المجتمعات التي ترغب في الانتماء إلى هذا التجمع الاقتصادي الهام.
وتأتي هذه الواقعة لتؤكد من جديد عبثية تحركات هذه الدولة الإفريقية التي لا تتوقف وإصرارها الأعمى الذي سيقود في نهاية المطاف إلى الإضرار بفضاء مثل ذلك الذي يمثله ” البريكس”، وهي تستعد للدخول في لعبة ستضر لا محالة بعلاقاتها مع العديد من البلدان.
ويتغيا المغرب من موقفه هذا، وضع حد لسلسلة من التكهنات حول ترشيح مفترض للمملكة للانضمام لتكتل “البريكس” وكذا حول مشاركة محتملة في اجتماع ” البريكس/ إفريقيا” المنعقد في 24 غشت 2023.وبدأت فكرة تأسيس التكتل الاقتصادي العالمي “بريكس”، والذي يضم كلا من البرازيل وروسيا والهند والصين بالإضافة إلى جنوب إفريقيا، في شتنبر 2006، حينما عقد أول اجتماع وزاري لوزراء خارجية البرازيل وروسيا والهند والصين على هامش أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.وتعي المملكة المغربية الأهمية السياسية والاقتصادية لمجموعة “بريكس” ، خاصة وأن هذا التكتل يتكون من خمسة دول، تعد صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم، وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، كما ان مساحة هذه الدول تشكل ربع مساحة اليابسة، فيما يقارب عدد سكانها 40 % من سكان الأرض، حيث تضم أكبر خمس دول مساحة في العالم وأكثرها كثافة سكانية.وهي بذلك تهدف إلى أن تصبح قوة اقتصادية عالمية قادرة على منافسة “مجموعة السبع” التي تستحوذ على 60% من الثروة العالمية، كما أن مساهمة هذا التكثل الاقتصادي في الاقتصاد العالمي يصل إلى 31.5%، بينما توقفت مساهمة مجموعة السبع عند 30.7%.
وبحسب مراقبين فمن المتوقع بحلول عام 2050 أن تنافس اقتصادات هذه الدول، اقتصاد أغنى الدول في العالم، كما من المتوقع أن تشكل حلفا أو ناديا سياسيا قويا، وتكتلا اقتصاديا يسعى لكسر هيمنة الغرب على الاقتصاد العالمي، مما جعلها محط اهتمام عديد الدول، التي ما فتئت ترغب في الانضمام إلى هذا التكتل.ويبقى القرار المغربي الحازم والحاسم القاضي برفض المشاركة في اجتماع “البريكس/ إفريقيا” بجوهانيسبورغ، تكريسا للخطى الثابتة والمدروسة التي قررت الرباط السير على هديها لتحقيق مزيد من المكاسب التي تدعم عدالة قضيتها الأولى التي قرر المغرب ألا يحيد عنها في علاقاته الدولية، حيث حصد بفضلها دعما دوليا واسع النطاق، ومواقف دولية ثابتة حيال وحدته الترابية، وخاصة مبادرة الحكم الذاتي بالصحراء.وفي مقدمتها الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء ودعم مبادرة الحكم الذاتي، وهو القرار الذي تأكد بالملموس، عدم تأثره بتعاقب الرؤساء وتبادل الحزبين الجمهوري والديمقراطي للمواقع، أكدت خلاله واشنطن أن لديها قناعات جوهرية مبنية على معطيات تاريخية وأمنية واقتصادية.
وينضاف الموقف الأمريكي الواضح والقوي، إلى مواقف إيجابية لكل من بلجيكا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا وقبرص ولوكسمبورغ والمجر ورومانيا والبرتغال وصربيا، وهي البلدان التي لها تأثيرها الدولي والإقليمي.
ويتواصل مسلسل المكتسبات، بفتح ثلاثين دولة لقنصليات عامة بالصحراء المغربية، وهو ما يمثل صيغة جديدة من صيغ الدعم العملي الذي يسلط الضوء على الأمن والاستقرار والتنمية بمدينتي العيون والداخلة.
كما تواصل دول مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر واليمن، مواقفها الثابتة والمتأصلة والواضحة بخصوص قضية الصحراء، فضلا عن اتساع دينامية دعم الموقع السيادي المغربي من قبل حوالي 40٪ من الدول الإفريقية ودول أخرى تنتمي لأمريكا اللاتينية وتجمع دول الكاريبي.وكما يبقى موقف المغرب الرافض لحضور هذا الاجتماع، استمرارا للموقف السيادي الذي أصبح الضمانة الرئيسية لعلاقة جيدة مع المغرب، والفرز الموضوعي لشركائه الدوليين، ورسالة دالة للأطراف المتأرجحة والمترددة في مواقفها، وبالمقابل يؤكد المغرب على الدوام، أنه سيظل جاهزا لشراكة عميقة وواعدة، مع كل الدول التي تقرر مراجعة مواقفها من قضية الصحراء المغربية، كما وقع مع دول البينيلوكس وألمانيا وإسبانيا وغيرها.