هل تجبر أزمة دول الساحل والصحراء حكام الجزائر على إنهاء القطيعة مع المغرب وإعادة فتح الحدود؟
بقلم: الدكتور كريــم القرقــوري
باحث في العلوم السياسية والإعلام
تشهد منطقة الساحل والصحراء، تطورات متسارعة على خلفية الإنقلاب العسكري الذي أطاح بحكم رئيس دولة النيجر السيد محمد بازوم، وما تلاه من ردود فعل إقليمية ودولية متباينة و”ملغومة”، وتفاعلات “مبهمة” صدرت من مجموعة الإيكواس، وخاصة دولتي مالي وبوركينافاسو، باتت تنذر بقرع طبول حرب قد تكون مدمرة، وقد ترخي بظلالها على بعض دول الجوار، وفي مقدمتها الجزائر التي أعلنت بشكل حازم أنها ترفض أي تدخل عسكري خارجي، وهو ما يعني إغلاق مجالها الجوي، وإعاقة أي تدخل عسكري فرنسي في النيجر.
هذا الإختبار الدبلوماسي الصعب الذي تجتازه الجارة الشرقية الجزائر، جاء بعد ضياع أبرز حلفائها (الرئيس محمد بازوم الموالي لفرنسا)، وهو ذات الوضع الصعب في معادلة التوفيق في التوازن بين حليفها التاريخي فرنسا، وحليفها الاستراتيجي روسيا.
ولأن الإنقلاب العسكري الذي أطاح بحكم الرئيس محمد بازوم رئيس دولة النيجر، وما له من رمزية نهاية النفوذ الفرنسي في المنطقة، قد يؤشر على تحول مفصلي يترجم بتنامي الشعور المضاد لفرنسا، والذي يولد مطالب شعبية عارمة يعتبرونها «التحرر من الهيمنة الفرنسية» على المقدرات والثروات الإفريقية.
وهو واقع يجعل روسيا المستفيد الأكبر من هذا الإنقلاب الذي قالت أنه يمثل صدى الصوت الإفريقي المتحرر من النفوذ الفرنسي، ولاسيما بعد خروج تظاهرات تحمل الأعلام الروسية وصور بوتين وشعارات مؤيدة للشراكة مع روسيا.
وتبدو فرنسا الحَلَقَة الأضعف في هذه المعادلة، ذلك أنها عجزت عن تبني الخيار العسكري لإعادة الرئيس السابق محمد بازوم إلى الحكم، كما فشلت كذلك في إقناع مجموعة الإيكواس في القيام بهذه المهمة العسكرية نيابة عنها، وهي بين هذا وذاك تترقب الموقف الأمريكي البراغماتي الذي يسعى إلى أن يحول المكاسب الفرنسية في النيجر لصالحه، وفي الوقت ذاته يناور مع الجزائر بالملف الأمني لحملها على تعزيز الشراكة الأمنية، والابتعاد عن المحور الروسي.
يأتي هذا في وقت تبحث فيه الولايات المتحدة الأمريكية عن الخيارات المتاحة التي تخدم أجندتها الإستراتيجية في هذه المنطقة، حيث تبذل مجهودات تتماشى مع أهدافها النفعية البراغماتية.وهو ما عجل بلقاء جمع وزير خارجيتها أنتوني بلينكن Antony Blinken، بنظيره الجزائري أحمد عطاف، تطرق خلاله الطرفان للحوار السياسي والعلاقات الاقتصادية، حيث أعرب خلاله وزير الخارجية الأمريكي عن أمله في أن تتقدم العلاقات الجزائرية الأمريكية إلى آفاق أخرى، بينما كان بلينكن أكثر وضوحا، بأن تحدث عن المصالح المشتركة بين الطرفين في منطقة الساحل والصحراء، ومنها قضايا الإرهاب والأمن والسلام في المنطقة، وهو ما يؤكد إمساكه بالمسمار المدقوق في خاصرة الجزائر، والذي دفع المؤسسة العسكرية الجزائرية للخروج بتصريحات قوية تتحدث عن قوة الجيش وجاهزيته لحماية الحدود.يأتي هذا في وقت تعيش فيه مجموعة الإيكواس، حالة من التردد بسبب التدخل العسكري، وصل إلى حد الانقسام الداخلي بسبب الضغوط الفرنسية التي تتوخى القيام بتدخل عسكري يعيد الرئيس المنقلب عليه إلى الحكم بالنيجر.
هذه التطورات -وغيرها-، جعلت الجزائر تعيش اليوم حالة عزلة دولية تكرست بعد إخفاقاتها السياسية والاقتصادية والديبلوماسية المتوالية، ذلك أنها لم تنجح في تطوير علاقاتها المتذبذبة مع فرنسا، ولا في الضغط على إسبانيا باستعمال ورقة أنبوب الغاز، خاصة بعد إعترافها بمقترح الحكم الذاتي لطي نزاع الصحراء، كما أنها لم تنجح في الدفاع عن قبولها في مجموعة البريكس، وهو ما يعني ضعف وهشاشة تحالفها مع روسيا، ينضاف هذا إلى فشلها الذريع عربيا في الكثير من المحطات لعل آخرها المطالبة بإرجاع سوريا للجامعة العربية، بالإضافة إلى فشلها في توحيد الفصائل الفلسطينية المتناحرة.
كما أن الجارة الجزائر تتخوف من اشتعال الحرب على حدودها الجنوبية، لكونها ستشكل لا محالة تهديدا أمنيا خطيرا على حدودها، وسيفتح الباب واسعا للأنشطة الإرهابية، وهو ما قد تتخذه واشنطن دريعة للتدخل العسكري المباشر بالمنطقة بمبرر محاربة الإرهاب، وهو ما سيشكل إحراجا للجزائر مع روسيا التي توسعت أطماعها بهذه المنطقة الإفريقية.
كما أن امتداد الحدود النيجرية الجزائرية على طول ألف كيلومتر، سيجعل من أي تدخل عسكري خارجي تهديدا حقيقيا للجارة الشرقية، وخطرا أمنيا وإرهابيا كبيرا عليها، بالإضافة إلى حدوث هجرات ونزوح جماعي متوقع للفارين من هذه الحرب، ستؤدي معه البلاد لا محالة فاتورة باهضة التكلفة، هذا علاوة على تضرر المصالح الاقتصادية والاتفاقيات التجارية التي تربط دولة الجزائر بدول الساحل والصحراء، وخاصة دولتي النيجر ومالي.
عمليا، يمكننا القول اليوم بأن الوضع الاستراتيجي للجزائر في منطقة الساحل والصحراء، قد تراجع بشكل كبير، فلا هي استمرت في التنسيق مع فرنسا، ولا هي أصلحت وطورت علاقاتها مع دول الجوار، ولا هي ساندت موسكو في حربها الاستراتيجية مع أمريكا في القارة الإفريقية، بسبب خشيتها من أن يكون ذلك سببا في جرها إلى خصومة استراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
وتبدو الجزائر اليوم أكثر من أي وقت مضى، في عزلة عن كل جيرانها الحدوديين “تونس وليبيا والنيجر”، ومهددة في أمنها واستقرارها السياسي بفعل ما بات يصطلح عليه اليوم ب” القنبلة الموقوتة ” (الطوارق)، وهو الوضع الذي يجعل من المغرب طوق نجاة الجزائر الوحيد.
ولجسامة هذه التحولات، وتقديرا للإحراج الذي يحشر مسؤولي قصر المرادية في الزاوية، يواصلون”بلع لسانهم” والتريث عن أي تعليق على دعوة جلالة الملك محمد السادس باستئناف العلاقات البينية، وإعادة فتح الحدود إلى سابق عهدها، وهي دعوة غير معتادة ومختلفة عن مواقفهم الصدامية السابقة، سيما وأنها جاءت في سياق زمني يضيق من خيارات الجزائر، بعد اقتراب التهديد الأمني والعسكري من منظومة أمنها القومي (حدودها مع النيجر).
ويبقى الإحراج الدبلوماسي مرتبكا للنظام الجزائري في علاقته الملتبسة مع روسيا من جهة، ومع فرنسا من جهة ثانية، وخاصة بعد التلويح بالخيار العسكري لحل الأزمة وما سيعقبه من تطورات ستفرض عليها التضحية بأحد حليفيها التقليديين، وهو ما يفرض عليها التفكير بجدية في توسيع خياراتها هذه المرة، ومراجعة مواقفها الدبلوماسية السابقة مع المغرب، والتي تكلفها (حكومة وشعبا) فاتورة باهضة.