المغرب يربح رهان الانتخابات ويعزز تجربته الديمقراطية بقلم : د.مصطفى المريني
باحث في القانون الدستوري
الرابح الأكبر في انتخابات الثامن من شتنبر، هو المغرب {البلد، والدولة والمؤسسات، والشعب}؛ لأنه كسب تحدي الإنتظامية الدستورية في تنظيم وإجراء الانتخابات، وربح في زيادة الإقبال على الاقتراع، وكرس إلى حد كبير مناخ الشفافية والنزاهة؛ برغم بعض الممارسات والسلوكيات الملازمة للتطور الديمقراطي.وهذا بشهادة المراقبين الدوليين والوطنيين الذين مارسوا دورهم بكل حرية، وَالْتَقَتْ تقاريرهم حول معطى نجاح التنظيم المتزامن لثلاث انتخابيات (تشريعية جماعية وجهوية)، في سياق دولي موسوم بانتشار الجائحة، وإقليمي مطبوع بالتوتر الطارئ في العلاقات بين الدولتين الجارتين المغرب والجزائر.
صحيح أن الانتخابات ليست غاية في حد ذاتها، كما قال جلالة الملك في خطاب الذكرى الثامنة والستين لثورة الملك والشعب، لكنها “وسيلة إلى إقامة مؤسسات ذات مصداقية، تخدم مصالح المواطنين، وتدافع عن قضايا الوطن، لأننا نؤمن، والقول لجلالة الملك، بأن الدولة تكون قوية بمؤسساتها، وبوحدة وتلاحم مكوناتها الوطنية، وهذا هو سلاحنا للدفاع عن البلاد في وقت الشدة والأزمات والتهديدات”.وأزعم أن هذه الأهداف قد تحقق جانب كبير منها في هذه الاستحقاقات الأخيرة، ولعل سقوط حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) عبر آلية الإنتخاب في الاستحقاقات الأخيرة {حصوله على 13 مقعدا فقط خلال تشريعيات 2021، مقارنة مع حصوله على 125 مقعدا خلال تشريعيات 2016}، وليس عبر وسائل أخرى كما حدث مع أحزاب (إسلامية) في بلدان عربية، عزز هذه الأهداف، وكرس “ريادة المملكة” على مستوى النضج الديمقراطي، ضمن محيطها العربي والأفريقي، لاسيما بعد تراجع التجربة التونسية التي قادت عملية الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية، عبر احتجاجات الربيع العربي عام 2011.ويسجل المتتبع هنا انتصار منطق الحكمة التي تعاطت به الدولة المغربية في إشراك “الإسلاميين” في السلطة، عبر بوابة الانتخابات، بعد احتجاجات الربيع العربي، وعدم الانقلاب عليهم، خاصة حينما اشتدت الوطأة على تجارب هذه الأحزاب في مصر، وتونس، وقبلهما الجزائر ..وأطيح ببعضها، في ظل ضغوط إقليمية ودولية.
وحده المغرب، رفض منطق الانقلاب على حزب العدالة والتنمية، وإبعاده من دائرة السلطة، بالطرق والوسائل الخشنة، واستمسك باستكمال تجربتهم، باعتبارهم جزء من المشهد السياسي والمجتمعي، وطالما أن الناخبين هم من اختاروهم، فهم من يملكون “سلطة” الإطاحة بهم عبر آلية الانتخاب، كما هي متعارف عليها في الدول الديمقراطية العريقة.
ويعلم الله مقدار “الضغوط” التي تعرض لها المغرب، للتخلي عن الإسلاميين، خاصة من بعض البلدان العربية الاقليمية التي تربطه بهم علاقات أخوية واستراتيجية، تأسست عليها مصالح كبرى، من الصعب التضحية بها.ورغم أن الدولة لم تكن تعدم مبررات “دستورية”، لإبعاد حزب العدالة والتنمية من الحكومة، وخاصة بعد فشل رئيس الحكومة المعين السابق عبد الإله بنكيران عن تشكيل أغلبية حكومية بعد تصدر حزبه لنتائج الانتخابات التشريعية عام 2016.فإن الملك محمد السادس تشبث بالتفسير الحرفي للدستور، لاسيما الفصل 47 الذي يقضي بتعيين رئيس الدولة لرئيس الحكومة من الحزب الذي حاز أغلبية مقاعد مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها. فعين سعد الدين العثماني من نفس حزب العدالة والتنمية رئيسا للحكومة مكلفا بتشكيلها لمنح الحزب الفرصة الكاملة لمحاولة تشكيل أغلبية حكومية، رغم أنه كان بالإمكان أن يلجأ الملك في إطار صلاحياته الدستورية، إلى “تأويل” الفصل 47 من الدستور بعد فشل بنكيران في تشكيل الحكومة، ودخول البلاد مرحلة من “اللاستقرار السياسي”، وربط الفصل 47 بالفصل 42 من الدستور، الذي ينص على التالي :“الملك رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الاسمى بين مؤسساتها يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة، الملك هو ضامن استقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة”.
وبعيدا عن الاجتهادات الفقهية والنظرية التي طالت صلاحيات رئيس الدولة في إطار الفصلين المشار إليهما ( الفصلين 42 و47)، فإننا نعتقد كباحثين في القانون الدستوري، أن مقتضياتهما تتيح إمكانيات متعددة للتصرف، ومن بينها إمكانية تعيين رئيس الحكومة من حزب آخر، غير الحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات في حال فشله في تشكيل أغلبية حكومية، هذا إذا اتضح أن الخيارات الأخرى لا ترفع (الأمر الواقع) ، أقصد -هنا – اللجوء إلى اعادة الاقتراع، أو تعيين مسؤول آخر من الحزب الذي تصدر الانتخابات..،لكن لحسن الحظ أن رئيس الدولة لم يلجأ إلى هكذا خيارات، تشبثا بالمنطوق الحرفي للنص الدستوري، وإسكاتا للأصوات المتربصة، التي قد ترى في “هكذا تأويل” خروجا عن النص الدستوري.
وهذا لعمري، يحسب لجلالة الملك، الذي أبان عن حكمة وبعد نظر مشهودين، في تدبير المرحلة التي تلت ما سمي بالربيع العربي، مرحلة زلت فيها أقدام كثير من الحكام العرب، فزاغت ببلادها عن سكة الاستقرار، بينما بقي المغرب محافظا على استقراره وتماسك مكوناتها الوطنية، مقدما بذلك نموذجا يحتذى في الاستقرار والتنمية.
واليوم، يبرهن المغرب للعالم أجمع، أنه بلد “جدي”، ماض في عملية الانتقال الديمقراطي، وتعزيز البناء المؤسساتي، وتحقيق التنمية الشاملة، وقد لا نبالغ إذا قلنا، أننا في الأشواط الأخيرة للحاق بمصاف الدول المتقدمة، ومبارحة (متردم) الدول المترددة، حتى لا أقول الفاشلة، وجزء كبير من هذه المسؤولية ملقى على الحكومة المقبلة، التي تمخضت عن انتخابات 8 شتنبر 2021.
بل قد لا نبالغ إذا قلنا أيضا، أنها تتحمل مسؤولية تاريخية في تطبيع المغاربة مع الانتخابات، وإعادة الثقة لهم في العملية السياسية، ليس فحسب بتفانيها في تنزيل برنامجها الاقتصادي والاجتماعي (تحديدا برنامج الحزب المتصدر للانتخابات، وهو بالمناسبة برنامج واعد)، وإنما أيضا بالانخراط الجدي والمسؤول في الأوراش الكبرى التي يرعاها جلالة الملك، وخاصة مقتضيات النموذج التنموي الجديد.لذا نعتقد أن الحكومة المقبلة عليها مسؤولية “تأسيسية” نحو مرحلة فارقة في التاريخ السياسي للمملكة الشريفة، لا نملك كمغاربة ترف التهاون في كسب رهانها، فإما أن ندخل نادي الدول المتقدمة، وإما نبقى لا قدر الله نراوح عند جبل (متردم)!.
واستدراكا على ما تقدم، وحتى نكون منصفين، نقول :إنه بجانب هذه الصورة “المشرقة” التي ما فتئ المغرب يراكمها، فإن ثمة تحديات تواجهه في طريقه نحو هذا الأفق الواسع الذي يرنو إليه، قد تبدو للمتشائمين، مانعة له من الوصول، لاعتبارات لسنا معنيين في هذه المقالة بالوقوف عندها، لكن في المقابل، تبدو في نظر المتفائلين (ونحن واحد منهم)، تحديات ملازمة للتطور الديمقراطي والاقتصادي، تكبر حتى تسد الأفق، ثم تصغر حتى تضمحل عند خط الوصول!
د. مصطفى المريني
كاتب وباحث في القانون الدستوري